لم تعد ألاعيب السياسيين تنفع، ولم يعد الكلام المنمق يجدي، ولم يعد بيع الكلام يفيد لشراء التفاؤل، محاسبة المسئولين على أى خطأ أصبحت شيئا ضروريا وحتميا حتى تستقيم الأمور فى اتجاه واحد هو اتجاه الإصلاح والعمل وسيادة القانون.. لأن مسئولين بدون محاسبة تعنى الإهمال واللامبالاة والتقاعس عن العمل، ومن يدعى العكس عليه أن يثبت ذلك، رئيس الحكومة فى حالة صمت دائم، لكن أزمة عدم المحاسبة فى مصر، أصبحت سائدة فى عدد من مؤسسات الدولة، وتساوى الذين يعملون بالكسالى لعدم وجود محاسبة، ومن ثم لا يوجد ثواب ولا عقاب. الأغرب أن الذين لا يعملون أصبح لهم الصوت العالى الذى يطلقونه كغطاء لكسلهم أو تقصيرهم بهدف عدم محاسبتهم أو مطالبتهم بالعمل، وفى بعض المؤسسات الأخرى يلجأون إلى الألفاظ البذيئة ومحاولات تشويه من يطلب منهم العمل حتى تنقلب الصورة رأسا على عقب ويكون لهم الصوت الأعلى. ولم تعد المقولة (إذا ابتليتم فاستتروا) إذا ابتليتم بالتقصير عن أداء واجباتكم فاستتروا، بل إنهم يتباهون بعدم العمل، على أساس أنه لا تتم محاسبتهم أو تطبيق مبادئ القانون ومعايير العمل الحقيقية وهى فى أقل تقدير الثواب والعقاب. مناسبة هذا الكلام أن بعض من هم فى العديد من المؤسسات، وفى غفلة من الزمن صدقوا أنفسهم ويريدون من الناس أن يصدقوهم، على أنهم اصحاب الفضيلة وأصحاب المسئولية، وأنهم أرقام صعبة ومعادلات كبيرة يصعب فهمها إلا من هم فى نفس مستواهم، وهم فى أحسن أحوالهم أشخاص عاديون وضعتهم الظروف وحظوظهم على قمة المؤسسات التى يعملون بها. البعض يقول هذا هو حال مصر.. لكن مهلا فإن بعض التصرفات فاتها أن تميز بين الإنجازات والتجاوزات، فالبعض اختلط عليه الأمر، ولا يعرف كيف يميز بين ما هو إنجازات وما هو تجاوزات، فكان مقلا فى الأولى ومكثراً فى الثانية، مراهنا أن الناس لا يميزون، لكن فاتهم أنه فى كثير من الأحيان الناس أكثر ذكاء وليس من السهولة تمرير أى شيء عليهم. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، هناك إنجازات لرجال الشرطة فى التصدى للإرهاب ومحاربته وردع الخارجين على القانون، وسقط فى سبيل ذلك العديد من شهداء الشرطة لتحقيق الأمن والأمان والاستقرار فى جميع ربوع الوطن. وهذه إنجازات حقيقية، وفى نفس الوقت هناك تجاوزات فردية تتمثل فى قيام قوة من قسم شرطة الأقصر بإلقاء القبض على مواطن أثناء تواجده فى مقهى يوم الأربعاء 20 نوفمبر الماضى وتم اقتياده إلى قسم الشرطة ثم فوجئت عائلته بنقله إلى مستشفى الأقصر الدولى جثة هامدة وفق تقرير صادر من إدارة المستشفي، وذلك بعد وقت قصير من إلقاء القبض عليه. بعدها قام أهالى القرية بالتظاهر أمام قسم الشرطة وألقوا الحجارة على القوات، وتم القبض على 24 منهم ثم إطلاق سراحهم بمبادرة من الشرطة لتلافى تصعيد الأحداث، وفى يوم الجمعة الماضى قام الأهالى بمسيرة ورددوا فيها هتافات مناوئة للشرطة، وطالبوا بتقديم المتهمين بقتل المواطن المصرى للعدالة وإقالة مدير الأمن. وتكرر نفس الأمر فى محافظة الإسماعيلية عندما نشبت مشادة بين طبيب بيطرى وأحد ضباط قسم أول الإسماعيلية عقب تفتيش صيدلية تملكها زوجته قبل اقتياده إلى قسم الشرطة، وهناك أصيب بحالة إغماء بعد مشادة بينه وبين الضابط وتم حجزه بالمستشفى إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، واتهمت زوجته الضابط بالتسبب فى وفاته. وهذه التصرفات الفردية حاولت جماعة الإرهاب وبعض الفضائيات تضخيمها وتصويرها على أنها تجاوزات لجهاز الشرطة بالكامل، رغم أنها حالات فردية وتم تحويل المسئولين عنها للنيابة، هذا أمر قابل للحدوث فى أى مكان وفى أكثر الدول ديمقراطية. فما بالنا بتعرض مصر لهجمات إرهابية متعددة تستهدف المصريين ولا تفرق بين رجل أمن ومواطن عادى. ولا نستطيع أن نقول إن مثل هذه الأزمات مستعصية عن الحل، لأنه عند تطبيق القانون على الجميع سواء أصحاب النفوذ أو من لا يملكون النفوذ تتحقق المحاسبة القانونية للمتجاوزين وتسود العدالة القانونية فى المجتمع. التطورات تؤشر إلى شيء من الإيجابية، لكن قراءة الأحداث تجعل أى متابع أو مراقب يتهيب الموقف، حتى لا يقع مجددا فى صدمة عدم تطبيق القانون. المشكلة أن الحل هو سلسلة متكاملة، بمعنى أنه ليس بالإمكان إنجاز بند منه وإهمال بنود أخري، فإما إنجازها جميعا ولو عبر جدولة الأولويات، وإما سقوطها كلها بحجة الفشل فى معالجة بند من بنودها. هذه السلة المتكاملة يفترض أن تتضمن المحاسبة بشكلها الواسع بحيث لا تؤدى إلى الإخلال فى التوازنات وذلك بوضع نظام كامل متكامل لتحقيق هذا الهدف. وهو المحاسبة بتطبيق القانون على الجميع دون تفرقة أو مجاملة لمن يخرج عن القانون، فى كل الأجهزة والمؤسسات. وللحقيقة فلابد من تحسين أجهزة الخدمات التى تتعامل مع الجمهور أو تقدم خدمات مباشرة للناس أن تكون إلكترونية، بمعنى أنها لا تحابى أحدا على حساب الآخرين، ولا تقبل أى أوراق دون أن تكون مستوفاة لجميع الإجراءات. وبدون أى مجاملة، فإن إدارات وزارة الداخلية التى تتعامل مع الجمهور قد تحسنت بشكل إيجابي، خصوصا من الضباط الذين يتعاملون بروح إيجابية ويسيرون الكثير من الأمور فى مصالح المرور والأحوال المدنية، رغم افتقاد بعض هذه الأجهزة للنظام وشيوع البيروقراطية المتوارثة على مدار عشرات السنين، وهى مشاكل لا تقتصر على أجهزة وزارة الداخلية، ولكنها تتزايد وتتفاقم فى معظم أجهزة الدولة، ولم يشعر الناس بتحسن كبير إلا فى حالات محدودة، ومعاناة الناس لا تتوقف عند هذا الحد، فهناك مثلا البقالون التموينيون وتحايلهم على استغلال الناس وتحويل المميزات التى تقدمها الدولة للمواطنين إلى نوع من المعاناة المتمثلة فى عدم تسليمهم الحصص التموينية المستحقة لهم أو مقايضتهم بسلع أخري، بالإضافة إلى تسليمها بشكل يفتقد معايير الاستهلاك الآدمى. هل يمكن تطبيق هذه السلة المتكاملة بوضع نظام واضح وكامل لحل المشاكل اليومية والمتعلقة بتقديم الخدمات للناس أو بتطوير الأجهزة التى تتعامل مع المواطنين بداية من قسم الشرطة إلى المخبز والبقال التموينى بالإضافة إلى بقية المؤسسات الخدمية المتعاملة مع الجمهور، مثل إدارات المرور واستخراج المستندات الرسمية، وهو ما يطرح أن تقدم حكومة شريف إسماعيل حلولا كاملة فى هذا المجال، وأن تطرح فى برنامجها الذى سيقدم لمجلس النواب خلال هذا الشهر سلة من مشروعات القوانين لحل المشاكل الخدمية التى تواجه الناس بحيث يجدون السهولة وحسن المعاملة فى إنهاء مصالحهم. التحدى الكبير، لكن الحل المجدى والفعال والثابت والذى يؤدى إلى الاستقرار والأمان لا يمكن أن يكون أقل من بنود هذ السلة المتكاملة. فهل آمال الناس فى حكومة شريف فى محلها؟ أم أن المشاكل ستستمر. أيتها الحكومة الكريمة؟، نطالبك بمعالجة الأداء المتردى لعدد من الوزارات الخدمية مثل الصحة والنقل والتعليم بمختلف مراحله والتى تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطن المصري، ووضع خطط لتحسين ما يتم تقديمه لخدمة الوطن المصرى وخلق بيئة عمل مناسبة يمكنه أن يساهم فى النهوض بالأوضاع الراهنة وتعالج القصور بالجهاز الحكومى فى خلال السنوات الأخيرة. سوء الخدمات يؤدى بشكل كبير إلى حالة السخط والاحتقان داخل المجتمع المصرى ويتسبب فى العديد من الأزمات التى يكون لها تبعات سلبية تؤثر على خطة التنمية التى تستهدفها الدولة لبناء مصر الجديدة. هذه طلبات الحد الأدنى للناس الذين لا يقصرون فى دفع الضرائب، فيما تقصر الحكومة فى توفير حقوقهم الأساسية التى يدفعون ثمنها مسبقا من العرق والتعب. والغريب أنه يوجد تباطؤ فى إحكام الرقابة على الأسواق ومواجهة عمليات الاحتكار واستغلال المواطنين وتطبيق القوانين بمنتهى (القوة والحزم) وتفعيل كل النصوص القانونية غير المفعلة، وتطبيقها على المحتكرين الكبار من رجال الأعمال المعروفين بالاسم ولا يستطيع أحد الاقتراب منهم. والمفارقة أن الذين يتم تطبيق القانون عليهم ومحاسبتهم ومطاردتهم غالبا ما يكونون هم الباعة الجائلين الذين يفترشون الأرصفة للبحث عن لقمة العيش التى تسد جوعهم، أو الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة، وكل ذلك يؤدى إلى فقدان الثقة فى الحكومة كما كان يحدث فى العهود السابقة. وليس بعيدا عن أن سبب ما نعانيه فى الصباح والمساء وفى الشتاء والصيف وعلى مدار العام الفساد، وهو الآفة التى تتسبب دائما فى تدهور المجتمع وتراجعه، وهو العامل الأساسى فى أزمة المصريين.. ودائما يأتى هذا الفساد من أصحاب النفوذ الذين يستغلون سلطاتهم فى تحقيق فوائد أو محسوبية أو وجاهة لمصلحة فرد أو جماعة بطريقة غير شرعية. وآفة الفساد لها أنياب وأظافر متمثلة فى الفساد الإدارى والتسيب الوظيفى وتبديد الموارد الاقتصادية. حكومتنا الكريمة، اتق غضب الناس، وكفانا انتظارًا وترقبًا. ابدأى بحل المشاكل اليومية والخدمية حتى يلمس الناس التحسن، ولا تصمى آذانك عن سماع معاناة الناس، وليكن لكم إيمانكم بأنكم قادرون على تحقيق التطوير والتحسن ولو بشكل تدريجى ملموس يشعر به الناس فى الشارع. يمكنكم أن تهدموا هذا الجبل من الفساد شيئا فشيئا ليهدم فى النهاية، لكن إيمانكم يجب أن يبقى نظيفا ساطعا، فلا تمنحوه لشياطين الأرض من المحتكرين ومدمنى غسيل الأموال الذين يظهرون فقط عند ظهور المسئولين ويختفون بمجرد جلوسهم فى مكاتبهم، ولا نراهم أبدا وسط الفقراء والمعدمين ولا يقدمون حلولا لمشاكل الناس، ولكن يقدمون المباخر والنفاق والمجاملات التى تقتصر على المسئولين فقط.